يدخل اليمن سنة سابعة من إحدى أطول حروبه وأكثرها عنفاً ورعباً وكلفة.
الصراع المسلح الذي جاء بعد نحو عامين ونصف على تنحية رئيس البلاد الراحل علي عبدالله صالح كان نتيجة وعنوانا عريضاً لفشل القوى السياسية والاجتماعية في وضع تصور شامل لمستقبل الحكم، واحترام التوافقات التي توصلت إليها في مؤتمر الحوار الوطني الذي رعته الأمم المتحدة لبناء دولة وطنية اتحادية جديدة.
وكان اجتياح المقاتلين الحوثيين للعاصمة صنعاء واستيلاؤهم على السلطة بقوة السلاح في الحادي والعشرين من سبتمبر / أيلول 2014 بمثابة الشرر الذي أشعل فتيل الانفجار الكبير.
الحصاد المر للصراع
تشير الاحصاءات الأولية للأمم المتحدة إلى سقوط أكثر من 330 ألف قتيل على الأقل وعشرات الألوف من الجرحى والمصابين على جانبي النزاع بينهم عدد كبير من المدنيين، أطفالٌ ونساءٌ ورجال.
كما أدى اشتداد القتال البري بين قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وحركة أنصار الله المتمردة والغارات الجوية التي شنتها مقاتلات التحالف بقيادة السعودية إلى نزوح وتشريد الملايين داخل البلاد وخارجها.
هل اندلعت الحرب بالوكالة؟
قادت المملكة العربية السعودية تحالفاً عسكرياً كبيراً للتدخل (المباشر) في النزاع لـ "دعم الشرعية اليمنية نحو استعادة الدولة وعودة الرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي إلى عاصمتها صنعاء" وذلك بناء على طلب منه كما قالت عقب فراره من الإقامة الجبرية في منزله بصنعاء ومنها إلى عدن ثم الرياض.
الجانب الآخر
لعبت إيران ما وصف بأنه أدوار معلنة وأخرى غير معلنة لدعم الحركة الحوثية التي تحالفت مرحلياً مع خصمها السابق رئيس البلاد الراحل صالح الذي قتل لاحقاً في مواجهة ثأرية على خلفية حروب ست سابقة بينهما وتنازع على السلطة بعد فرار الرئيس المنتخب.
كما تبادلت طهران السفراء مع الحوثيين في اعتراف صريح بالحركة كحكومة أمر واقع في صنعاء، وهو ما لم تفعله أي دولة أخرى في العالم.
الحوثيون اعتمدوا سفيراً لهم لدى الحكومة السورية للمرة الثانية، أولهما نايف القانص وثانيهما عبدالله علي صبري لكن دمشق لم تعتمد أوراقهما، بل لم تتسلمها أو ترسل نظيراً إلى صنعاء.
لم يكن للتحالف الذي تدخل في هذه الحرب أن يبقى بعيداً عن الاكتواء بنيرانها، فقد تعرضت بعض المدن والمنشآت الاقتصادية والموانئ العسكرية والمدنية في السعودية لهجمات متكررة من قبل الحوثيين.
وفي الرابع من أيلول/ سبتمبر من العام الأول للحرب 2015 مني التحالف بالخسارة الأكبر في الأرواح، عندما قتل 45 من الجنود الإمارتين و5 من القوات البحرينية، كما أصيب آخرون وذلك جراء هجوم صاروخي للحوثيين على قاعدة عسكرية لهم في مأرب.
لم يمض الكثير من الوقت حتى انفرط عقد التكتل العسكري العربي بانسحاب أعضائه واحداً بعد آخر ابتداء بالمغرب الذي أسقطت إحدى طائراته في بداية الحرب وتم أسر قائدها ثم الإفراج عنه لاحقاً، كما تباينت بعد ذلك حسابات من بقي في هذا التحالف.
أعلنت الإمارات في الثاني من فبراير /شباط العام الماضي عن عودة قواتها من اليمن، جاء ذلك بعد تقارير عن تعزيزها للقدرات العسكرية لحلفائها في جنوب البلاد وفق ما يراه منتقدو دورها المثير للجدل هناك وفي المقدمة من أولئك الحلفاء النخب والفصائل العسكرية الموالية لأبوظبي في المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن الشمال وبقايا من قوات الرئيس الراحل صالح في غرب اليمن.
هذا بينما لا تزال السعودية مستمرة في حملتها العسكرية رداً على هجمات الحوثيين على أراضيها من ناحية، ودفاعاً من ناحية أخرى عما يبدو أنه آخر معقل للحكومة المعترف بها دولياً في محافظة مأرب الغنية بالنفط في وجه استماتة الحوثيين للسيطرة عليها.
لم يتردد بعض قادة إيران في التباهي بتحول صنعاء إلى عاصمة "شيعية" رابعة تدور في الفلك الإيراني، لكن هذا الخطاب بدا مستفزاً لدول عديدة في المنطقة والغرب دفعها إلى ممارسة أكبر ضغط عليها عبر تشديد الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية وصل إلى حد انسحاب الإدارة الأمريكية السابقة من الاتفاق النووي مع طهران وإعادة العقوبات على ايران إلى ما هو أكثر من مربعها الأول خصوصاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
بعد ست سنوات من الحرب لم تتم استعادة الدولة، ولم يعد الرئيس الشرعي المنتخب إلا قليلاً إلى عدن التي كان اتخذها عاصمة مؤقتة للبلاد، بينما أمضى في الرياض نحو سبعة أعوام من رئاسته المقررة لعامين كان أمضاهما في اليمن.
أرسلت الأمم المتحدة ثلاثة مبعوثين خاصين للمساعدة في التوصل إلى وقف لاطلاع النار واطلاق مسار حل سياسي للنزاع ، هم:
المغربي جمال بن عمر 2011 - 2015
الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد 2015 - 2018
البريطاني مارتن غريفيث 2018 - حتى الآن
رعت الأمم المتحدة ثلاث جولات رئيسية من مشاورات السلام اليمنية جرت في كل من جنيف ثم بيل السويسريتين فالكويت، وقد فشلت جميعها باستثناء نجاح شكلي لجولة رابعة في ضواحي ستوكهولم تركزت على تجنيب مدينة الحديدة وموانئها الثلاثة عواقب هجوم لقوات التحالف أواخر العام 2019
وشهد النزاع على هامش هذه الجولات جهوداً ومساعي إقليمية ودولية عدة لم يكتب لها النجاح منها محاولة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري لإعادة ترتيب تنفيذ أولويات القرار الدولي الشهير 2216 الصادر في إبريل نيسان 2015.
اليوم تثار الكثير من الأسئلة بشأن هذه الحرب، لماذا فشلت كل هذه التدخلات الخارجية العسكرية والدبلوماسية في معالجة الصراع اليمني؟
يقول الباحث في الفكر السياسي قادري أحمد حيدر في حديث خاص لبي بي سي :"أعتقد أننا كنا سنصل إلى طريق أفضل مما وصلنا إليه عبر التدخلات الخارجية".
ويفسر قادري قوله هذا بأن "مشكلة التدخلات الخارجية أنها تمزق النسيج الوطني الاجتماعي، وتجعل كل الأطراف تتكلم عن العدوان، وهذا يعني أن بنية الوعي السياسي الداخلية تتمزق بين أطراف يتم خلط الأوراق بينها فلا تعرف مع من يكون الحق".
أما الأكاديمي والسياسي اليمني د. محمود العزاني فيرى أن "الطرفين الإقليميين الداعمين لطرفي النزاع ما زالا بعيدين عن عملية السلام، فثمة تعقيدات ذات ارتباطات بملفات أخرى كالبرنامج النووي الإيراني أو الأزمات الإقليمية" في دول أخرى التي تتقاطع مع النزاع اليمني.
غير أن ثمة أسباباً داخلية عميقة لهذا الصراع قد لا يدركها كثيرون في الخارج، فالجغرافيا الطبيعية والتاريخية مناطقياً ومذهبيا واجتماعيا الصعبة لليمن هي بعض من أكثر العوامل تأثيراً في استمرار هذا النزاع.
شن الحوثيون العديد من الهجمات على المنشأت النفطية السعودية
تقول الكاتبة والباحثة السياسية ميساء شجاع الدين لبي بي سي :"المسألة على المستوى المحلي شديدة التعقيد بعد ست سنوات من الحرب، فهناك حالة من الانقسام المنطقي والمذهبي التي يصعب تجاوزها، وهي تتجاوز قضية الشراكة في الحكم وفقاً التصور الدولي لحل النزاع".
وتتساءل شجاع الدين "كيف يمكن أن يحدث ذلك في ظل هذه الغابة من السلاح والميليشيات المنفلتة في كل مكان؟".
وعن التعقيدات الداخلية الشديدة لهذا النزاع يضيف العزاني: "المشروع الحوثي يعني بقاء مشروع حرب مستمرة ومعروف منذ ألف عام في التاريخ اليمني" وكذلك فإن المعسكر الآخر المناهض للحوثيين "يعاني من مشكلات عميقة يتناقض فيها ظاهر محتواه الذي يتحدث عن العودة إلى مخرجات الحوار الوطني والدولة الاتحادية عن باطن هذا المحتوى حيث يقوم بعض أطراف هذه المنظومة بمقاومة المشروع الحوثي بنفس الأدوات الطائفية لهذا المشروع".
هذه الدورة الهائلة من العنف الدامي لم تكن نزهة وبلا تكاليف ضخمة عسكرياً وسياسياً وأخلاقياً تكبدها الداعمون الإقليميون لهذا الصراع.
يبرر الكاتب والمحلل السياسي السعودي تحمل بلاده للقسط الأكبر من كلفة الحرب بقوله :"النظرة بالنسبة لليمن ليست بوصف السعودية ممولاً أو جزءاً من حرب أهلية، بل باعتبارها داعماً لليمنيين ومدافعة عن نفسها ضد الأخطار التي يمثلها الموالون لإيران في اليمن".
لكن آلة الحرب لا تدور فقط بتمويل خارجي قد يتوقف يوماً ما، يقول مصطفى نصر رئيس مركز الإعلام الاقتصادي في تصريحات لبي بي سي: "تكونت رؤوس أموال كبيرة، وتغّير الاقتصاد بطريقة تخدم أطراف الحرب" ويضرب نصر مثالاً على ذلك استناداً إلى تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة بأن "جماعة الحوثي تحصل بطريقة غير رسمية على أموال من الجبايات والزكوات المختلفة تزيد على مليار وثمانمائة مليون دولار، إلى جانب طرق رسمية عن طريق الشركات والكيانات الاقتصادية التي نشأت واستفاد منها النافذون في الجماعة" ويضيف نصر "نشأ في الجانب الآخر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اقتصاد حرب آخر مماثل".
ويخلص نصر إلى أن "تفكيك اقتصاد الحرب سيكون أصعب من الوصول إلى حل سياسي".
انتقال الحرب شرقا إلى محافظة مأرب الغنية بثرواتها الطبيعية خصوصا المعدنية شرق العاصمة صنعاء ربما يؤشر إلى أن النفط والغاز في اليمن كله وليس في مأرب وحدها يمكن أن يشكلا رغم تواضع كمياتهما أحد الميادين الجديدة المحتملة للصراع وأخطر مصادر تمويله واستمراره.
خطورة وقوع مناطق النفط في دائرة التنافس المحلي والإقليمي يهدد بتغيير سيناريوهات الصراع ليس فقط داخل اليمن بل في المنطقة بأكملها
ماهو حجم ثروة اليمن من النفط والغاز؟
يمتلك اليمن 87 قطاعاً نفطياً يتم الإنتاج الفعلي في 12 قطاعاً منه، تعمل فيها 11 شركة نفطية، وتبلغ مساحة القطاع الواحد نحو 4 آلاف كيلومتر مربع، هذا بالإضافة إلى 26 قطاعاً استكشافياً تعمل فيه 16 شركة نفطية، وهناك 7 قطاعات قيد المصادقة ، ونحو 28 قطاعاً مفتوحاً، وحوالي 14 قيد الترويج، ويبلغ حجم احتياطي اليمن من النفط نحو 9.718 مليار برميل.
ويقدر حجم ثروة اليمن من الغاز المكتشف في القطاعات النفطية حتى عام 2006 بحوالي17,028 ترليون قدم مكعب.
بدأ اكتشاف الغاز العام 1984 في القطاع 18 بحوض مأرب - الجوف النفطي.
تبلغ مساحة قطاع صافر النفطي بمحافظة مأرب نحو 8 آلاف كيلو متر مربع.
يكشف الباحث الجيو- سياسي اليمني المقيم في فرنسا مصطفى الجبزي عن أهمية المشتقات النفطية لطرفي النزاع حيث يقول إن :"الحوثيين يعملون بطريقة بنيوية عبر تعديل قوانين التحصيل الضريبي والجمركي والزكوات" ويدخل في ذلك النفط والغاز اللذان "لا ينتجونهما، حيث يضاعفون أسعار اسطوانات الغاز سبعة أضعاف شرائه من مأرب بأساليب لا تراعي ظروف السكان وبالتالي هم أكثر استفادة من الحكومة الشرعية".
ويكشف الجبزي عن تقارير دولية تشير إلى أن الحوثيين يحصلون على "شحنات نفط مجانية من إيران بقيمة حوالي ثلاثين مليون دولار لكنهم يبيعونها في السوق السوداء بسعر يتراوح بين 7-10 أضعاف قيمتها" بما يسهم في تعزيز المجهود الحربي لهم خصوصاً أنهم "متخففون من دفع الرواتب والخدمات الاجتماعية والصحية الأخرى".
ما دام هناك اقتصاد حرب داخلي يتنامي ووسائل تمويل ذاتية تتطور فلن تعجز شركات ومهربو الأسلحة والذخائر وصانعوها المحليون عن ايجاد طرق جديدة لتغذية الصراع وجر البلاد إلى حروب داخلية أخرى أطول أمداً وأكثر تعقيداً ربما لن ينحصر أثرها داخل حدود اليمن فقط.
المصدر: أنور العنسي / بي بي سي - لندن