يقطفون الأرواح ويحصدون الرؤوس، ومن خلال فوهات بنادقهم يمر الموت إلى طرائدهم، رصاصاتهم تقض مضاجع الأبرياء، يمارسون هوايتهم بالنيل من النساء والأطفال والشباب العزل، يجرعون أبناء المدينة كؤوس الألم والوجع، يمنعون عنهم الزاد ويحاصرونهم، حتى أنهم جعلوا من المرور في الطرقات أشبه بالمرور فوق حبل معلق فوق هاوية، من ينجو من رصاصاتهم بحياتهم؛ قد يحمل جسده إصابة أو إعاقة دائمة.
تلك هي قصة قناصة مليشيا الحوثي المتمركزين على تباب مدينة تعز، تلك المدينة التي لا يمر يوم؛ إلا وفيها شهيد أو جريح بنيرانهم، أحدهم كان الشهيد "محفوظ علي عبدالجليل دايل" الشاب الذي يبلغ من العمر (36) عاما، ويسكن في حي الثورة.
"محفوظ " شاب ذكي وطموح، كان متفوقاً في دراسته منذ الصف الأول وحتى المرحلة الثانوية التي تخرج منها بمعدل "95%" في العام ٢٠٠٦م، قبل أن يسافر إلى ماليزيا لإكمال دراسته الجامعية في تخصص الحاسوب، ثم هندسة النفط
عاد محفوظ إلى اليمن في العام ٢٠١٩، يحمل شهاداته الجامعية، وتزوج وأنجب طفلة، وعمل في شركة المتحدين للتأمين، ثم تقدم على وظيفة في محافظة شبوة، وكان له ما أراد حيث كان من المقرر أن يسافر إلى هناك في قادم الأيام.
يقول عنه أخاه: "محفوظ شخصية هادئة متزنة وملتزمة، متواضع جداً، وذو أخلاق عالية، كل من يعرفه أو يعاشره يدرك ذلك، والجميع يحبه ويحترمه.
ويضيف: "أنا شقيقه الأكبر، لكني كنتُ أتعامل معه كأنه هو الأكبر مني سناً بسبب أخلاقه وطيبته وحنانه، وكان دائما رمز الطاعة".
ويصفه معلمه قائلاً: "الشهيد محفوظ علي عبدالجليل دائل، أحد طلابي النجباء منذ زمن طويل في مدرسة أبي عبيدة، أتذكره جيداً، وكيف كان مهذباً وأنيقا. كان رائعاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى".
ذهب "محفوظ " لزيارة أمه، كما يفعل كل يوم جمعة؛ إلى منزلها الكائن أسفل "سوق عصيفرة"، حيث يقضي معها أوقاتاً طويلة من الحميمية، لكنه في يوم الجمعة الموافق 4 مارس 2022م، لم يصل إلى أمه حياً كما يحدث في كل جمعة سابقة على تلك الجمعة.
وصل محفوظ إلى باب منزل والدته، مد يده ليضغط زر جرس المنزل، لكن رنة الجرس لم تكتمل.
لم تكتمل رنة الجرس، ليس لأن محفوظ عاد أدراجه، أو قرر عدم زيارة والدته، كان قناص حوثي يراقب محفوظ ويرصد خطواته في انتظار أن تحين لحظة يتمكن فيها من تثبيت بندقيته على هدفه، وحينما وقف محفوظ أمام باب منزل والدته، كان فرصة القناص لإثبات براعته وجدارته، وبكل برود وغطرسة؛ ضغط الزناد وأطلق رصاصته باتجاه قلب محفوظ الطيب النقي.
سقط محفوظ قتيلا أمام منزل والدته لتستقبله هذه المرة جثة هامدة مضرجة بدمائه، ولتكن هذه هي الزيارة الأخيرة التي لم يستطع إكمالها برؤية وجه أمه، ولم تُكلل بقبلات الترحيب، بل شهدت قبلات الوداع الأخير من طرف واحد.
نُقلت جثة محفوظ بصعوبة إلى مستشفى الصفوة، فحتى بعد إصابته استمرت رصاصات القناص الحوثي في ملاحقة أقاربه وجيران أمه وهم يحاولون إسعافه، كان القناص يريد التأكد أن مهمته ستنجح، وظن أن نجاحها يتمثل في منع المسعفين من الوصول بالجسد الذي استهدفه إلى المستشفى، لكن روح محفوظ كانت فارقت جسده بعد إصابته بقليل، ولم يكن ثمة جدوى من إسعافه.